كيف سيكون شكل الفن في عالم ما بعد كورونا؟

توقفت الحياة تقريباً على كوكب الأرض بصورة شبه تامة، بسبب وباء كوفيد-19، وتأثرت كل مجالات الحياة، وبعد انتهاء هذا الكابوس لن تعود الأمور إلى ما كانت عليه من قبل، فكيف سيكون شكل الفن أو نوعه في عالم ما بعد كورونا؟

صحيفة نيويورك الأمريكية نشرت تقريراً بعنوان: “العالم توقّف عن الدوران فجأة. فأي نوعٍ من الفن سيظهر؟”، تناولت فيه سيناريوهات ما بعد نهاية الوباء في مجال الفن المعاصر.

شكراً إنستغرام!
لا متاحف، لا معارض فنية أو تجارية، لا مدارس، لا حفلات افتتاح، لا زيارات استوديو، لا جدال أثناء شرب الجعة، لا شراكات خرقاء مع الطائرات الخاصة. هكذا تحوّل عالم الفن المُعاصر في غضون أيامٍ من شبكةٍ عالمية صاخبة إلى مدينة أشباح، إذ يحتمي الجميع في مكانه بالتزامن مع تهديد فيروس كورونا لمُدننا وسُبل عيشنا. وعلى غرار أيّ قطاعٍ آخر، اضطر الفن إلى الظهور عبر العالم الرقمي. ولا يُوجد نقصٌ في الفنانين والنُّقّاد (ومن بينهم أنا) الذين يتحسّرون على الكيفية التي غيّر بها Instagram -وغيره من المنصات- شكل الفن المُعاصر. ولنحمد الله لأنّ Instagram هو كل ما نملكه الآن تقريباً.

إذ كانت الأيام الأولى من العزلة الجسدية والحرمان الثقافي أشبه بدوامة غضب، وربما غضب أولئك الذين يجدون العزاء في الفن بسبب الإغلاق الضروري للمتاحف، الذي جاء على الفور في الولايات المتحدة وتأخّر قليلاً في بريطانيا، لكن تلك المتاحف أُغلِقت من قبل. إذ جرى إخلاء متحف اللوفر خلال الحرب العالمية الثانية، كما أُقفِلَت متاحف نيويورك لفترةٍ وجيزة في أعقاب هجمات الـ11 من سبتمبر/أيلول وإعصار ساندي.

خسائر مالية ضخمة
تُمثّل مبيعات التذاكر في المتاحف نسبةً ضئيلة من إجمالي الدخل مُقارنةً بدور الأوبرا وفرق الرقص، لكن النزيف يتزايد بالفعل. إذ تنبّأ متحف المتروبوليتان للفنون، الذي يمتلك تأميناً هائلاً يصل إلى 3.6 مليار دولار بخسارةٍ تصل إلى 100 مليون دولار. في حين أنّ المؤسّسات ذات الاحتياطيات الأصغر تغرق تدريجياً، وقد لا يُعاد فتحها من جديد. وأطلق متحف المتروبوليتان للفنون هذا الأسبوع حملة ضغطٍ بعنوان #CongressSaveCulture، لمطالبة الكونغرس بتخصيص مليارات الدولارات من أموال الإغاثة الفيدرالية للمتاحف من أجل إنقاذ الثقافة، كما سيتعيّن على مُحبي الأعمال الخيرية أيضاً التدخُّل رغم غرق محافظهم الاستثمارية كذلك.

والمعارض الفنية التجارية مُعرّضة للخطر نفسه كذلك، وخاصةً بالنسبة للمؤسسات متوسّطة الحجم التي تُشكّل المبيعات والمعارض نسبةً أكبر من إيراداتها السنوية. وهؤلاء هم أكثر من سيُعانون من وطأة إلغاء معرض آرت بازل في هونغ كونغ، الشهر الجاري، ومعرض فريز في نيويورك في شهر مايو/أيار.

فضلاً عن الفنانين الذين يحتاجون إلى المال في الوقت الحالي، مثل أيّ مواطن (خاصةً أنّهم لا يمتلكون حمايةً من البطالة أو إجازات مدفوعة الأجر). وبدأوا بالفعل في التعاون من أجل جمع موارد للطوارئ، بالتزامن مع إلغاء معارضهم وعروضهم التعليمية، وشكّلوا شبكات تضامن عبر Instagram وWhatsapp وغيرها من المنصات.

وفي حال استطاعوا تحمُّل تكلفة الإيجار ربما يتعلّم بعض الفنانين التركيز باهتمام داخل استوديوهاتهم، مثل هيلما أف كلينت التي ظلّت ترسم سراً طوال عقود، أو فيلادلفيا ويرمان الذي صنع أكثر من ألف منحوتة رائعة من المعدن المُتداخل دون عرض أو ترك اسمه.

ظروف العمل اختلفت تماماً
لكنّي أشك في أنّ تركيز هيلما سيُمثّل قضيةً للأقلية، إذ إنّ غالبية الفنانين والمواطنين لم يجدوا تجربة التباعد الاجتماعي مفعمةً بالسلام والهدوء. بل وجدوا التجربة عبارةً عن قصفٍ مُتواصل من الأخبار والصور عبر شاشة الهاتف الذكي. وربما حان الوقت لتسليط الضوء على أماليا أولمان، الفنانة الأرجنتينية المُعاصرة التي ظلّت طوال شهور تنشر صوراً على Instagram مُتنكّرةً في هيئة “شخصيةٍ مُؤثّرة” مُدّعية ومحدودة الذكاء. وربما حان الوقت للتساؤل حول ما إذا كان بإمكان هذه المنصة الاجتماعية أن تصير أكثر من مُجرّد أداةٍ ترويجية للفن، وتتحوّل إلى وسيلةٍ لعرض الأعمال الفنية.

ورغم أنّ إعادة الإنتاج لا تجعل الفن مُتاحاً فعلياً، لكنّني سعيدٌ برؤية الجهود لزيادة المعروضات رقمياً في القطاعات الربحية وغير الربحية. إذ أطلق مُديرو المتاحف في شمال غرب إيطاليا، المُتضرّر بشدة من المرض، عدداً من العروض الافتراضية الجاهزة ومقاطع فيديو خطوة بخطوة داخل معارضهم المُغلقة، ومنها بيناكوتيكا دي بريرا وفوندازيون برادا في ميلان، وكاستيلو دي ريفولي في تورينو. وأعادت متاحف نيويورك، التي تتمتّع بأصولٍ رقمية قوية، تقديم الجولات ثلاثية الأبعاد ومقابلات الفيديو مثل متحف فريك كولكشن في مانهاتن، وومتحف كورنينغ للزجاج. إلى جانب العديد من المعروضات المُنتظرة من متحف الفن الحديث. أما التجار الذين كانوا سيزورون هونغ كونغ الأسبوع الماضي -التي تُعتبر للمفارقة الآن مدينةً أكثر أماناً من عواصم الفن الغربية- فبدأوا يُحاولون بيع بضاعتهم عبر غرف العرض الرقمية الخاصة بآرت بازل.

كما حذّر الفنان الأمريكي المُقيم في برلين أدريان بايبر من أنّنا “سنُسلَب كل شيء”، وقد أمضى سنواتٍ يُكرّر تلك المقولة، مع الإخفاء العنيف للهوية المبنية إلى المجهول، على المطبوعات والزجاج وسبورات المدارس القديمة. إذ حُكِمَ علينا بفقدان الأرواح، والوظائف، والمؤسسات، والممارسات، والتقاليد. وربما بات من الأفضل الآن التفكير ملياً فيما تُعلّمه لنا العُزلة الحالية حيال ما آل إليه الفن، وكيف نرغب أن يبدو شكله حين نعود إلى الحياة الطبيعية.

صناعة عالمية تحتاج للتكيف
وتحوّل الفن المُعاصر على مر العقود القليلة الماضية إلى صناعةٍ عالمية نشطة على مدار الساعة، لذا كان إغلاق متاحفنا المحلية يُمثّل تعطيلاً للأعمال بقدر إغلاق الحدود وإلغاء الرحلات الجوية. فضلاً عن أنّ الصورة الكليشيهات الرومانسية عن الفنان العبقري الذي ينحت الجمال على الرخام حلّت محلها صور الفنانين (ولاحقاً أمناء المتاحف) الذين يُسافرون حول العالم طوال الوقت بوصفهم جزءاً من صناعة الترفيه. وتأتي هذه الصور النموذجية من الثنائي السويسري فيشلي/فايس اللذين تنقل صورهما في “المطارات” -التي تتجاوز الألف صورة- مشاهد صالات المغادرة وجسور الطائرات النفاثة التي مروا بها طوال عقود في طريقهم إلى هذه المحاضرة أو تلك. وعلى متن خطوط طيران Lufthansa أو Air France، داخل متحفٍ ياباني أو مبنى أسترالي مُعدّل، نجد أنّ الفنان هو الشخص الذي يتنقّل عبر المساحات المُحايدة التي كان يُعتقد أنّها مُعقّمة في السابق، لكنّها باتت الآن بمثابة مساحات مليئة بالتلوّث.

إذ كانت الصور التي التقطها الثنائي فيشلي/فايس داخل “المطارات” تُمثّل وسيلة اكتساب الأهمية في عالم الفنون من خلال الحركة، وكيف أنّ المؤسسات المحلية تنظر إلى نفسها بوصفها جزءاً من شبكةٍ عالمية للصور والأشياء المُتنقّلة. وخير مثالٍ على ذلك هو متحف الفن الحديث الجديد، الذي كان في الماضي بمثابة معبد تستطيع داخله رؤية لوحات بيكاسو على نفس الجدران في كل مرة، لكنّه تحوّل الآن إلى موقعٍ تتغيّر الأعمال الفنية داخله باستمرار، وبات من المستحيل أنّ تظل قاعةٌ داخله على حالها لفترةٍ طويلة. وبحسب ملاحظة الناقد كايل شايكا الرائعة في مجلة Frieze البريطانية، كان الفن يُقدّم نفسه في السابق من خلال قصة تقدُّمه تاريخياً، في حين أنّه بات يعتمد الآن “التقرُّب المُستمر من أشخاص وأماكن جديدة”، ليصير في حالة تنقُّلٍ دائم إلى وجهات مُختلفة.

ما مهمة الفن بعد كورونا؟
فضلاً عن أنّ الوسائط الرقمية لم تُوقف هذا التنقّل العالمي، بل زادت من سرعته. وتطول القائمة كثيراً عند الحديث عن الفنانين أو الكُتّاب الذين أعرفهم ممن عرضوا أعمالهم داخل مكانين على الأقل في الوقت ذاته، “بين بروكسل ولوس أنجلوس” أو “بين برلين وأكرا”، ولكنّهم باتوا مُضطرين الآن للاحتماء في منازلهم.

وهم في ذلك يحذون حذو قديستهم الشافعة مُؤلّفة رواية “رحلات جوية Flights” عام 2018، وهي سلسلة قصص قصيرة مُترابطة من تأليف الروائية أولجا توكاركزوك الحاصلة على جائزة نوبل، إذ تقول: “السيولة والتنقُّل والزيف -هذه هي الخصائص التي تجعلنا مُتحضّرين على وجه التحديد”. وبالنسبة للعديد من الفنّانين والنُقّاد وأُمناء المتاحف في جيلي، فإنّ مهنتك يجب أن تكفي لوضعها داخل حقيبة يد.

ونحن نُدرك أنّ عالم الفن العالمي المُتحرّك باستمرار سيتعرّض لضغوطات ضرورية، مع تفاقم أزمة المناخ. إذ أدّى الركود الوقائي الذي فرضته الجائحة الآن إلى تسريع عملية إعادة تقييم عالم الفن لفوائد هذا السفر الدائم.

وستنطوي مهمة الفنانين في عام الطاعون الجديد هذا على إعادة تأسيس الرسم، والتصوير الفوتوغرافي، وعروض الأداء، وغيرها من الفنون التي ما يزال بإمكانها أن تحمل معنى وتُؤثّر في العالم، حتى في ظل عجزنا عن الحركة. أو يُمكننا القول إنّ هذه هي مهمتهم على المدى البعيد، لأنّ المهمة على المدى القصير تكمُن في النجاة.

أترك تعليقا

لن يتم نشر الايميل الخاص بك