الكاتبة مليسة نزيم في حوار للقاء: كتاب “حين يولدون في صمت” منصة للألم والأمل والإنسانية

– أبحث عن النور وسط الصمت وعن المعنى بين تفاصيل الحياة اليومية

– الحياة ليست مجرد وجود بل فعل مستمر للخير وسعي لتغيير صغير يحدث فرقًا

– بناء الإنسان يتجاوز تعليم المهارات ليصبح تشكيلًا للروح والقيم

– الكلمة ليست سيفًا لتثبيت الجراح بل مرآة تعيد للإنسان حقه في الظهور

– لنمد قلوبنا قبل أيدينا، فقوة المجتمع تكمن في رحمته واحتضانه لمن ضاقت بهم الحياة

 

في عالم يمتلئ بالقصص النمطية والصمت المخبأ وراء الأقدار، تبرز مليسة نزيم كصوت فريد يروي ما لم يُسمع من قبل، كاتبة وناشطة كشفية وأم، نجحت مليسة في نسج تجارب حياتها المختلفة – بين الكتابة، التطوع، والأمومة – إلى رسالة واحدة عن الإنسانية، الأمل، والكرامة.
في هذا الحوار، نغوص في عالمها الخاص، لنفهم كيف تحوّل الألم إلى نور، والصمت إلى صوت، وكيف تجعل من كل تجربة درسًا يضيء الطريق للآخرين، خاصة الفئات الأكثر هشاشة في المجتمع.

مليسة لا تحكي مجرد قصة، بل تقدم لنا دعوة صادقة لمراجعة أحكامنا المسبقة، ولفهم الإنسان بما هو عليه، بعيدًا عن القوالب الجاهزة، لتذكّرنا أن الإنسانية والأمل يمكن أن يكونا دائمًا منارة وسط العتمة.

حاورتها : رادية مراكشي

اللقاء : من هي مليسة نزيم خارج إطار الكتاب والعمل التطوعي؟

مليسة نزيم: “أنا روح تتنفس الحياة بوعي وإدراك، أبحث عن النور وسط الصمت، وعن المعنى بين تفاصيل الحياة اليومية، أمومتي لطفلتي تمنحني دفئًا وإلهامًا، وفي الوقت نفسه أجد نفسي منغمسة في الكتب والأبحاث، أتأرجح بين الواقع والحلم، بين تجربة الحياة وفلسفة الوجود.

القلم بالنسبة لي ليس مجرد أداة، بل نافذة للتعبير عما لا يُرى، عن صمت من حُرموا الصوت وعن قصص لم تُحك بعد، أحاول أن أصنع من الألم نورًا، ومن التجربة حكاية، ومن الكتابة جسراً يربط روحي بالعالم. هذه أنا، وهذه حياتي، وهذه رسالتي.”

– أنتِ ناشطة في قدماء الكشافة الاسلامية فوج السلام و مسؤولة عن قسم المرشدات، كيف شكل هذا الدور شخصيتك ورؤيتك للحياة؟

العمل الكشفي علّمني أن الحياة ليست مجرد وجود، بل هي فعل مستمر للخير وسعي دائم لإحداث تغيير صغير يمكن أن يصنع فرقًا كبيرًا، من خلال قيادتي لقسم المرشدات، اكتشفت مدى قدرة الروح على التأثير والإلهام، وكيف يمكن غرس القيم بطريقة تتجاوز التعليم النظري لتصبح تجربة حقيقية يعيشها الآخرون.

تعلمت أن أعطي بلا انتظار مقابل، أن أصغي للقلوب قبل الكلمات، وأن أغرس في الفتيات القوة الداخلية والوعي الذاتي، هذا الدور جعلني أرى الحياة على أنها رحلة تُشكّل بما نتركه في نفوس الآخرين، وكيف يمكن للأمل والمحبة أن يتغلبا على كل الظروف. أدركت أن كل عمل صغير يمكن أن يكون منارة لمن ضاقت بهم الحياة، وأن تأثيرنا الحقيقي يقاس بما نزرعه من قيم وإلهام في من حولنا.

 

 

 

 

– ما القيم الأساسية التي تحرصين على غرسها في الناشئة من خلال عملك الكشفي؟

بالنسبة لي، بناء الإنسان يتجاوز تعليم المهارات ليصبح تشكيلًا للروح، أحرص على غرس إحساس عميق بالمسؤولية تجاه الذات والآخر، وعلى التأكيد أن قيمة الإنسان لا تُقاس بالنسب أو المال، بل بنقاء قلبه وشجاعته.

أزرع حب الوطن والانتماء، وأعلّم العمل الجماعي كأسلوب حياة، وأرعى الثقة بالنفس والشجاعة الأدبية لمواجهة تحديات الحياة، كل هذه القيم تشكّل خيوطًا متشابكة تصنع شخصية قادرة على العطاء والإبداع، والوقوف إلى جانب الآخرين في ضوء الحياة وظلامها على حد سواء.

– متى بدأ شغفك بالكتابة، وما الفكرة التي ألهمتك لكتابة “حين يولدون في صمت”؟

بدأ شغفي بالكتابة حين اكتشفت في الصمت ضجيجًا لا يسمعه غيري، أصبحت الكتابة ملاذي في اللحظات التي أغلقت فيها الأبواب في وجهي، وحوّلت العيون أحكامًا جاهزة، أنا واحدة من أولئك الذين لم تُمهلهم الحياة هوية واضحة، فكان القلم نافذتي لأروي صمتًا لم يُسمع، ولأمنح أسماءً مفقودة مقعدًا في الذاكرة، ولأعلن بصوت واثق: “قد يولدون في صمت” ، لكن أصواتهم قادرة على أن تُكتب وتُسمع.

وهكذا وُلد الكتاب، من بين جراح الروح ورفض المجتمع لأقدار لم نخترها، ليصبح جسراً بين الصمت والوجود، بين الألم والتعبير، وبين ما يُقال وما يُختزل في القلوب.

 

 

– لماذا اخترت معالجة قضية الفئة المجهولة النسب من منظور إنساني وفلسفي؟

هذه القضية ليست مجرد بند قانوني أو ملف اجتماعي، بل هي مرآة لجرح إنساني عميق يسكن أرواحًا كثيرة في صمت. اخترت الكتابة عنها لأنني أشاركهم التجربة، ولأن الكلمات كانت نافذتي لأقول: هناك أوجاع بلا أوراق رسمية، لكنها تحمل أقدارًا محرومة من أبسط حقوق الانتماء. أردت أن أتجاوز سطح المشكلة إلى عمق السؤال الفلسفي: ماذا يصير الإنسان حين يُدفع خارج دائرة الاعتراف؟ وكيف يمكن أن يتحول الحرمان من الهوية إلى قيد يحجّم وجوده؟ الفلسفة كانت طريقي لفهم الإنسان قبل محاكمته.

– كتابك يتناول قضية حساسة.. ما أبرز التحديات التي واجهتك أثناء معالجتها؟ وكيف تغلبتِ عليها؟

أكبر تحدٍ واجهته كان الكتابة عن الفئة المهمشة، الأطفال المجهولون النسب، دون أن تتحول الرواية إلى قصة شفقة سطحية، هؤلاء الأطفال يعيشون واقعًا قاسيًا يتضمن العنف اللفظي، الحرمان من الحقوق، التهميش، الإدمان، وحتى العنف الجسدي والاغتصاب، لا سيما أولئك الذين يغادرون دور الأيتام بعد سن الثامنة عشرة.

كان عليّ أن أرسم هذه المعاناة بدقة، مع الحفاظ على روح فلسفية وأدبية تمنح الإنسان كرامته، وتمكّن القارئ من الشعور والوعي دون استغلال الألم، لقد اقتنعت بأن الكلمة ليست سيفًا لتثبيت الجراح، بل مرآة تعيد للإنسان حقه في الظهور، وأن الكتابة هي في حد ذاتها شكل من أشكال المقاومة والاحتضان لأولئك الذين لم يجدوا العائلة أو الدفء الذي وجدته أنا.

– ماذا تريدين أن يستفيد القراء من كتابك، وخاصة الفئات الأكثر هشاشة؟

 

أطمح أن يرى كل قارئ الحقيقة بوضوح: الإنسان أكبر من أي وثيقة أو خانة في ملف، الأطفال المجهولون النسب ليسوا لعنةً ولا خطيئة، بل بشر قادرون على صياغة مصائرهم وبناء حياتهم إذا وجدوا الاحترام والاحتضان.

أريد لكل من مرّ بالظلم أو الألم أن يدرك أن النور قادر على الظهور من العتمة، وأن السعادة ليست امتيازًا لأولئك الذين وُلدوا وفق معايير المجتمع، بل هي حق لكل روح مؤمنة بنفسها وبقدرتها على التغيير.

كتابي هو دعوة لكسر الأحكام المسبقة، وإعادة الإنسان إلى جوهر إنسانيته، ليُنظر إليه بما يستحقه من احترام وكرامة وفرصة لإحداث فرق في العالم من حوله.

 

 

 

– الأمل والمحبة هما خيطان أساسيان في كتابك، كيف يظهران في حياة أبطال الرواية؟ وما الرسالة التي توصلينها من خلالهم؟

الأمل ليس مجرد فكرة، بل شعور يدفئ القلب ويُنعش الروح حين يظن الإنسان أن الأبواب أُغلقت أمامه، إنه اليد التي تمتد للأطفال الذين لم يجدوا منزلاً، والقلوب التي احتضنتهم دون سؤال عن نسبهم أو أسمائهم.
المحبة هي الشمعة التي ظللت أحتفظ بها في قلبي رغم العتمة، وهي الإيمان بأن الحب يُبنى ولا يُورث، وأنه يمكن زرعه في القلوب المظلومة حتى في وجه الحياة غير العادلة.

بطلة كتابي، “الخطيئة”، وُلدت في هامش المجتمع، لكنها حملت نورًا لم تنتبه له العيون، قصتها تذكّرنا أن كل روح ولدت بلا اسم تستحق أن تُكتب لها حكاية، ليس كضحية، بل كنبراس أمل يضيء الطريق لمن يظنون أن الحياة حُرمتهم من النور.

– بصفتك كاتبة وناشطة كشفية، كيف توازنين بين العمل التطوعي، حياتك الشخصية، والكتابة؟

أعيش في مساحة تتقاطع فيها ثلاثة عوالم: عالم الكلمة، حيث أكتب لأتنفس وأرتب أفكاري؛ وعالم التطوع، حيث أمد يدي لمن يحتاج بصمت وإخلاص؛ وعالم الأمومة، حيث أنحني لأجعل الحياة أكثر دفئًا ولطفًا لقلبي الصغير.

لا أملك وصفة جاهزة للتوازن بين هذه العوالم، لكنني آمنت أن التوازن ليس مجرد توزيع الوقت بعدل، بل انسجام النية وصدقها، أكتب حين يهدأ العالم لأسمع صوتي الداخلي، وأتطوع حين أشعر أن هناك قلبًا منسيًا يحتاج لمن يراه، وأكون أمًا حين يطلبني حضن صغير، لأدرك أن الحب هو الزمن الحقيقي، زمن لا تُقاس ساعاته، بل بعمق اللحظات التي نصنعها مع من نحب.

 

– إذا أردتِ أن يصل صوتك إلى المجتمع، ما الرسالة الأهم التي تريدين إيصالها من خلال كتابك وتجربتك؟

رسالتي واضحة: لنكف عن محاكمة الآخرين على أقدار لم يختاروها، ولنمد قلوبنا قبل أيدينا، قوة المجتمع لا تكمن فقط في قوانينه، بل في رحمته واحتضانه لمن ضاقت بهم الحياة، كل من وُلد في صمت يستحق أن يُسمع، وكل من حُرم بداية عادلة له الحق أن يجد فينا قلبًا يقاس بالإنسانية لا بالنسب أو الظروف.

تجربتي وكتابي ليسا صرخة غضب، بل دعوة صادقة للحب، وللانتماء، ولرؤية الآخر بعين أكثر عدلًا ورحمة، بعيدًا عن الصور النمطية والأحكام المسبقة، لنبني مجتمعًا يتسع للجميع، ويمنح لكل روح الحق في أن تُسمع وتُحترم.

 

أترك تعليقا

لن يتم نشر الايميل الخاص بك