يقول المبدع والأكاديمي الجزائري عزالدين جلاوجي عن مسيرته مع الإبداع التي بدأت بكتابة القصة القصيرة، حيث صدرت مجموعته القصصية “لمن تهتف الحناجر؟” في 1994، ثم انتقل إلى المسرح والكتابة للطفل.
وتأخر كثيرا اهتمامه بالرواية، التي تكاد تشغل كل اهتماماته الإبداعية في السنوات الأخيرة:” أتصور أن هذا التنوع في الأجناس شكل لدي ثراء كبيرا في كتابة الرواية، التي هي الحياة على حد قول أندريه جيد، إنها عالم زاخر وعميق يعيد تشكيل الحياة بصورة فنية وجمالية، عالم يقدم الإنسان في أعماقه وفي علاقاته المختلفة، كنت أتصور دوما أن الرواية عالم مخيف، يحتاج الاقتراب منه إلى امتلاك أدوات معرفية وجمالية وحتى حياتية تجريبية، منذ البداية لم أر الرواية مجرد حكاية نرويها، ذلك مطروح على قارعة الطريق على حد قول الجاحظ، بل هي فن يجب على كاتبه أن يكون مدججا لأنه بصدد خوض معركة يعمل فيها ليضغط الحياة ويعيد بعثها بلمسات فنية، وهذا لا يتأتى لكل الراغبين، وأتصور أن الاستسهال الذي ساد اليوم هو الذي جنى على الرواية العربية، ننتج آلاف النصوص سنويا ثم هي مجرد ركام من الأوراق”.
في الفراشات والغيلان ثمة توازٍ مفترض، نجده أيضا في الحلم والفجيعة، فقد اعتمدت الكاتب في بناء أعماله خصوصا الروايات الأولى على الثنائيات المتضادة، عن ذلك يقول “يشكل العنوان متن النصوص في أقصى قدرات اللغة على التكثيف والاختزال، وهو ما يجب أن ينجح فيه الأديب، وقد شكّل في باكورتي القصصية سؤالا للحيرة، “لمن تهتف الحناجر؟” لعل ذلك كان تعبيرا عن حيرتي وأنا أقف في مفترق الطرق، طرق الواقع وطرق الأفكار، ثم تأكد ذلك من خلال مجموعتي القصصية الموالية “صهيل الحيرة”، إلا أنه أخذ منحى آخر بعد ذلك في نصوصي الرواية، حيث تجلت هذه الثنائية الضدية بقوة، الفرشات/ الغيلان، الحلم/ الفجيعة، الرماد/ الماء، إذ أن الحياة في حد ذاتها دفاع وصراع ولا يمكن أن تستقيم إلا بهذا التدافع وهذا التصارع، ولا يستقيم الفن إلا بذلك أيضا، لأنه انعكاس لهذه الحياة، وبقدر ما تٌظهر نصوصي الروائية هذا الصراع في متونها، تحيل عليه من عتبته الكبرى، لتعمل على تعرية الزيف والانحراف في الإنسان أساسا وفي واقعنا العربي على وجه الخصوص، وهو واقع ساد فيه انقلاب القيم، فلا عجب أن يغسل الرماد الماء.
في الفراشات والغيلان أيضا نجد فاتح اليحياوي، وهو المثقف الذي اعتزل نموذجا للمثقف المنزوي المهزوم. وهكذا حال المثقف في روايات جلاوجي، مهزوم أو متخاذل، يؤكد جلاوجي حرصه على حضور المثقف في أعماله فيقول “لا تكاد تخلو رواياتي من حضور صوت المثقف، في العشق المقدنس، حائط المبكى، أحلام الغول الكبير، سرادق الحلم والفجيعة، وحتى وإن تنوع حضور هذا المثقف لكني أريده دوما أن يكون صوت نفسه وصوت مجتمعه، بل أريده أن يكون صوت الإنسانية في مدارج رقيها، داعيا إلى الخير والحب والجمال”.
وعن المثقف في رواياته يقول “أحيانا يتجلى مناضلا صلبا عنيدا متحديا مضحيا بكل ما يملك، مفضلا لصعوبة الحياة وللسجون على تأييد ما يراه باطلا، وخير مثال على ذلك شخصيات منير وذياب والجازية في رواية “راس المحنة 1+1=0″، وقد لا أتفق معك في أن فاتح اليحياوي كان سلبيا ومنزويا في الرماد الذي غسل الماء، بل كان مثقفا راقيا متعاليا رغم محاولاتهم تدجينه وشراء قلمه وضميره إلا أنهم لم يفلحوا، ظل متعاليا، ظل عصيا عليهم على رأي إدوارد سعيد “المثقف عصي على السلطة” السلطة بمفهومها الواسع فيما أتصور، سلطة الدولة، سلطة الدين، سلطة المجتمع، والفرق بين المثقف في رأس المحنة والمثقف في الرماد الذي غسل الماء، أن الأول كان جماهيريا آمن بالشعب الذي سينتفض حتما ويغير، آما الثاني فقد فقد الثقة في سلطة الدولة وسلطة الدين وسلطة المال والمجتمع، لم يؤمن إلا بنفسه وذاته، وتعالى على الجميع لأنهم ارتكسوا، وذلك جلي في واقع الإنسانية على مدى قرون من الزمن، ولنا أن نعود إلى تاريخ الأنبياء وهم يمثلون أيضا صوت المثقف الرافض الساعي إلى التغيير، نجح بعضهم إلى حد ما، لكن أكثرهم أصيبوا بالخيبة، ولنا في النبي نوح وإبراهيم ويحيى إلى موسى وعيسى، أمثلة عن الانتكاسات والخيبات”.