روبورتاج: “اللقاء” في رحاب قصور غرداية

روبورتاج: ياسين مبروكي

الجزائر القارة، شاسعة بمساحتها واسعة بتضاريسها متنوعة بعادات وتقاليد ساكنيها، ملهمة لزوراها وقاصديها … يعرف اليوم الواحد فيها خلال فصل الشتاء فصولا متنوعة من شتاء ماطرة في الشمال إلى ثلوج بيضاء عامرة على مرتفعات الهضاب مرورا بأجواء لطيفة في مهاد الصحراء وواحاتها، حيث يأخذ الوقت منك الساعات الطويلة لتقطع شريطها الساحلي برا من الشرق إلى الغرب يصل أحيانا إلى 15 ساعة كاملة وعليك بحزم الزاد وتدبير شؤون الرحلة إذا قررت السفر من ساحل المتوسط إلى عمق الصحراء وحضائرها الواسعة الشاسعة أين تأخذ منك ما لا يقل عن 30 ساعة سير باستمرار وسط كثبان الرمال وقوافل الجمال، وبين هذا وذاك ستشرب من كل هذا الوطن الفسيح الكثير من اللهجات والعديد من العادات والثقافات المحلية المتنوعة الضاربة في عمق التاريخ من لباس وقماش أصيل إلى أكل وطعام فيه من اللذة ما يستدعيك لتسجيله في ذاكرتك الخاصة بالشهية والذوق المنقطع النظير.

رحلتنا هذه المرة بعد تفكير وتدبير قادتنا إلى جوهرة الجنوب وحاضنة القصور غرداية العامرة مررنا في طريقنا إليها من العاصمة بكل من بوابة الصحراء بوسعادة العذبة ذات اللوحات الفنية العالمية والجبال الشامخة الرواسي والواحة الباكية الحزينة لفقدها آلاف النخيل العالية المثمرة وغياب مياه السواقي النافعة والخضر والفواكه الطازجة الغنية بفوائد التربة الخصبة، منها إلى عاصمة أولاد نايل الجلفة المضيافة وما لها من مقومات سياحية متنوعة كالنقوش الحجرية في زكار والحمامات المعدنية في الشارف دون أن ننسى المراعي والبرور الواسعة التي تسيح فيها آلاف الرؤوس من الماشية ذات الجودة العالية لحما وصوفا وتأقلما مع الظروف المناخية الباردة شتاء والحارة صيفا، لتصل بنا طريق الوحدة الافريقية والعابرة للصحراء إلى مدينة الأغواط ذات 54 موقعا أثريا مصنفا من بينها ثمانية قصور إسلامية والعديد من الأطلال التي تعود للقصور البربرية بحوالي 40 قصرا منها قصر الرومية، قصر قاعة الصبيان، قصر بكمة، قصر قليتات، قصر الفروج بوادي مزي، قصر الهمام، قصر سكلافة، قصر سبرقادة بوادي مرة …
الطريق من الأغواط إلى غرداية على بعد المسافة بينهما إلا أنها سريعة لخلوها من الازدحام والمنعرجات والمدن والقرى الصغيرة، وما يشد انتباهك فيها هو أعمدة النيران العالية في حقول الغاز التي تشتهر بها منطقة حاسي الرمل قبل أن تعود بك تضاريس الصحراء إلى الجبال العارية ببريان أولى المدن والقصور التي تشتهر بها غرداية حيث يقع قصر بريان على بعد 552 كلم جنوب الجزائر العاصمة، و45 كلم شمال مدينة غرداية، بين خط عرض 32° 50 شمالا وخط طول 3° 49 شرق، والذي يعود تأسيسه إلى سنة 1640م فوق هضبة صخرية معزولة، وتبلغ مساحته حوالي 27 هكتار وتتميز منطقتي “بالوح” و”سيدي أمبارك” بوجود محطات لنقوش صخرية ترجع إلى عصر ما قبل التاريخ، و تم تصنيف القصر كتراث وطني سنة 1998 ويشمل المحيط المصنف كافة القصر وواحته المحيطة به، ويخضع لنفس خصائص ومميزات قصور وادي ميزاب، وهو يقاوم إلى اليوم كل أشكال الحداثة والتغيير في نمطه العمراني بفضل ثبات معظم سكانه ووعيهم بالتراث التاريخي وعلاقته بالمحيط، ويقوم سد “بالوح” الذي بني سنة 1947 بتزويد الواحة بالمياه وسقيها أثناء سيلان الواد، وتعرف بريان بالصناعة الحرفية التقليدية، وبعلماء بارزين نذكر منهم المؤرخ الشيخ محمد علي دبوز.

قصور غرداية العامرة
وبمواصلتك السير نحو الجنوب فوق الجبال الصخرية تلوح بصرك في هدوء تام وشغف مفعم بحب الاطلاع نحو واحات غناء شاسعة المساحة على ضفاف وادي مزاب الذي يضم الكثير من القصور التاريخية العامرة بالساكنة والشاهدة عليها مناراتها الشامخة واللباس التقليدي الموحد لأهل ميزاب.
والقصور تعني باللغة المحلية القُرى، وتتباعد قصور وادي مزاب عن بعضها لكنّ هندستها واحدة، حيث تقوم فلسفتها على “ثلاثية مقدّسة” هي: المسجد والسوق والبيت باعتبارها المراكز التي يتحرّك فيها الإنسان.
أول ما يُبنى في القصر المسجد ففيه يجمع الناس، فتجد في كل قصر مسجدا واحدا، ثم تأتي السوق، وهي العمود الفقري للاقتصاد في كل قصر وفيها يجتمع الناس أيضا، وقد حرص المهندسون على أن تكون السوق قريبة من المسجد حتى يسهل على التجار والمتسوّقين الصلاة.
ثم بعد ذلك تأتي المنازل وهي متشابهة في تصميمها، فتكون جدرانها عالية وهي مفتوحة من الداخل، حتى تسمح للهواء والضوء بالانسياب فلا تحتاج إلى مصابيح أو مبردات إلا في أوقات قليلة جدا، وتصمم المنازل بشكل متقارب جدا ما يجعل الأزقة ضيقة شيئا ما، وتكون المنازل باردة صيفا ودافئة شتاء.
ويُعتبر قصر تاجنينت أقدم القصور السبعة، ويعني اسمه المكان المنخفض، القصر الثاني هو آت بونور ويُنسب لقبيلة المصعبية، التي بَنَت وسكنت المدينة قديما، تتميز آت بونور بأنها مبنية فوق ربوة صخرية منيعة جدا.
ثالث القصور هو تَغردايتْ وهي أول مدينة تُشاهَد عند القدوم من الشمال وتعرف اليوم بغرداية، رابع القصور هو آت إيزجن وهي من عواصم العراقة العلمية والدينية، التي حافظت على أصالتها المزابية ولا يزال سورها قائما إلى اليوم، وخامسا قصر آت مْلِـيشت ويقع على هضبة مرتفعة بين تغردايت وآت إيزجن، يستطيع الناظر منها أن يرى قصور تغردايت وآت ايزجن وآت بونور. القصر السادس هو تيڤرار المعروف بالقرارة، وتعني الجبال البيضَوية التي تحاذيها سهول صغيرة يستقر فيها الماء، وقد بنيت على أرض طينية على خلاف القصور الأخرى المبنية على جبال صخرية وتشتهر بواحتها الشاسعة، وأخيرا قصر آت إيبرڤان وتعرف ببَرّيّان، وعدا هذه القصور، التي ما تزال تنبض بالحياة، فإن قصورا عديدة أخرى اندثرت وصارت أطلالا، منها: أغَرْم نْتَضلِيزتْ وأغرمْ أنْ وادايو موركي وبابا سّعد.

ريح جميل وعبق أصيل في غرداية

وما سجلناه في ذاكرتنا عن غرداية وقصورها الجميلة هو النظام السائد لدى الساكنة وتمسكهم بالعادات والتقاليد والحفاظ على الأصول والعمل على توريث هذه المكتسبات الخالدة القديمة عبر مختلف الأزمنة والعصور، حيث لا يخلو زقاق من أطفال يرتدون اللباس الموحد الجميل ووفود السياح القادمين من مختلف أنحاء الجزائر مستبشرين بهذا الود والتآخي ومنبهرين بهذا الفن العمراني والإنساني الفريد في جزائرنا الحبيبة، والحقيقة أن القصور التي تستقطب أعدادا كبيرة من السياح هي قصر غرداية وقصر بني يزقن وقصر العطف حيث يلتزم السائح بالتجول في هذه القصور من خلال المكاتب الخاصة بالسياحة في كل قصر ويقوم المرشد أو الدليل بأخذك في جولة داخل القصر مع شروحات كافية وافية حول المنطقة وفي مختلف المناحي العمرانية والاجتماعية مع ضرورة الالتزام بالقوانين المفروض على السائح الالتزام بها كإحترام مواعيد التجول في القصر وحرمة اللباس وعدم إزعاج الساكنة والحفاظ على نظافة القصر وأزقته، ومما تسجله خلال جولتك في القصر هو منارة المسجد التي تتوسط القصر والدخول على منزل مخصص للغرض السياحي تتعرف من خلاله عن بيوت أهل المنطقة وطبيعة عيشهم، وتعايشهم.
إلا أن ما سجلناه في هذه المدينة والقصور هو غزو الاسمنت للكثير من بيوتها وأزقتها إلى جانب المشاريع البلدية والولائية الخاصة بالتهيئة الحضرية والتي لم تراعي في أغلبها النمط العمراني للمدينة والاعتماد على أهل الاختصاص في الترميم وإسناد المشاريع حسب أولويتها، حتى المشاريع البيئية تلعب دورا هاما في الحفاظ على هذه المدينة وبريقها فتحتاج في الحقيقة إلى دراسة شاملة لإعادة الاعتبار للغطاء النباتي خاصة في الأحياء الكبيرة والطرق الرئيسية.
وما يجده السائح اليوم من برامج لدى الوكالات السياحية هو زيارة قصر تغردايت حيث الساحة الجميلة التي تتوسط القصر وزرابيها العتيقة الأنيقة التي تغطي جدران الساحة وتزين بها مداخل الدكاكين والحوانيت التي تزخر بالمتوج المحلي للصناعات التقليدية من حلي ومجسمات تراثية على مفروشات متنوعة تروي حقبا مختلفة من تاريخ مزاب وجوهرة الجنوب غرداية، حيث لا يمكن أن تخرج من هذا السوق إلا وقد لبست الزي المزابي المشهور بالطاقية “القبعة” المزابية والسروال التقليدي الذي يلبسه الكبار والصغار في هذه المدينة وهو مايمزهم عن الآخرين.

وغير بعيد عن قصر تغردايت تجد قصر بني يزقن القديم الذي يسمح فيه للسواح بالتجوال في أوقات محددة وهو الذي يطل على حقول وبساتين المدينة وواحاتها الغناء، ويعتبر هذا القصر واحدا من القصور الشامخة العالية الشاهدة على التاريخ الطويل لهذه المنطقة وعراقتها ونموذجها الفريد في المعمار الصحرواي الفريد من نوعه.
ومن قصر بني يزقن تجد على بعد كيلومترات قصر العطف الأقل هدوء مقارنة بقصر تغردايت وقصر بني يزقن إلا أن ما يمز هذا القصر هو الحقول الكثيرة والمساحات الزراعية المتناسقة والمشاريع السياحية الخاصة التي تهدف إلى الاستثمار الأمثل بغية خلق حركية سياحية هادفة وشاملة، حيث توجهنا في ثنايا العطف إلى حديقة تسمى بحديقة الزواحف وهي عبارة عن حديقة حيوانات على سفح جبل من جبال العطف، روعتها تكمن في موقعها الاستراتيجي وتصميمها المتناسق وخرير مياهها المتدفق وأقفاص الحيوانات الزاحفة والبرية وحتى الطائرة.
ومن يزور ولاية غرداية فعليه أن يشد رحاله نحو متليلي وبالتحديد سبسب ذات الكثبان الرملية العالية والنخيل الباسقة والخيم الدافئة والمعالم الشاهدة على تراث المنطقة وتقاليدها، خاصة في المراكز السياحية التي توفر فضاءات خاصة بالراحة والاستجمام والاستمتاع برمال الصحراء وكثبانها وركوب جمالها وبعيرها وشرب شايها ومكسراتها، وغير بعيد عن سبب تجد المنصورة صوب الجنوب وما فيها من فضاءات سياحية كثيرة للخواص حيث يبدو للعيان أن الجهود متسارعة لتقديم خدمات أكثر وأفضل للسائح المحلي والأجنبي من ناحية الأكل والراحة والمبيت والاستمتاع بالسيارات رباعية الدفع وسط الصحراء وغيرها من الحسنات التي تساهم في الترويج أكثر لهذه المناطق السياحية الهامة.

مزرعة آل حبيب قلعة التحدي وجدية الاستثمار

وأنت في الصحراء تلوح نظرك يمينا وشمالا سارحا بعينيك في جمال الدروب وتقطعات خطوط الطريق، حتى تجد جنة رسمت معالمها على يسار الطريق “العابر للصحراء” بين مدينتي غرداية والمنيعة، هذه الجنة التي أبدع في تصميمها وابتكار تفاصيلها آل حبيب من خلال استصلاح المئات من الهكتارات وجعلها مساحات خضراء غناء تفوح في جنباتها ريح الأمل ونسيم الحياة، هذه المزرعة النموذجية حقيقة لا مجازا رسمت تفاصيلها بعناية فائقة وهندسة عالية ودقة لامتناهية، حيث تجد فيها المساحات الخاصة بالزراعة الاستراتيجية كالحبوب وأعلاف المواشي والأبقار، إلى جانب المساحات المخصصة لزراعة الخضر والفواكه بالطرق التكنولوجية الحديثة، ومئات الأشجار المثمرة من نخيل عاشق للصحراء إلى زيتون غني بالدواء، مع وجود حديقة للحيوانات والطيور تسر الناضرين وتبهج الحاضرين وتستقطب المشاهدين والسامعين، ومما يستثمر فيه آل حبيب في هذا الحقل هو تربية الأبقار المنتجة للحليب حيث تتصدر قائمة المنتجين للحليب على مستوى ولاية غرداية وتحضي بمركز جد متقدم على المستوى الوطني وتعتبر من الممولين الرئيسيين لإحدى الملابن المشهورة على المستوى الوطني والعالمي، وصولا إلى عروس المزرعة والمتمثلة في مرفق سياحي يتربع على مساحة هامة تطل على المزرعة من عل، وتتوفر على الكثير من الغرف والاقامات العائلية الجذابة ذات الطابع الصحراوي والعصري معا إلى جانب وجود مسبح وحديقة للأزهار وفضاءات للعب الأطفال ونزهة العائلات وكذا قاعة لممارسة الرياضة وأخرى كبيرة مخصصة للحفلات والولائم تم تجهيزها بمختلف الأفرشة العريقة ذات الرمزية التاريخية لوطننا الحبيب الجزائر، ولم يخف محمد حبيب ولعه بعلم الفلك حيث جسد منصة في أعلى المزرعة مخصصة لهذا الغرض وتطل على أجزاء كبيرة من المزرعة، ومما جسده مراد في هذه الجنة هو تربيته للخيول التي تساعده في تثمين البرامج التي يسطرها للزوار كبارا كانوا أم صغار، والحقيقة تقال حول هذا المشروع الاستثماري الفلاحي، السياحي، الترفيهي … بأنه قلعة يحج إليها كل راغب في روعة الحياة ونعيمها.

ولك في غرداية أخي القارئ وجهة أخرى يقصدها أهل الجزائر هي حمام زلفانة الواقع بين غرداية وورقلة، وما يحتويه من مياه معدنية تساهم في علاج المرضى وتحفظ صحة الأصحاء وتريح الراغب في الراحة بعد عناء.

أترك تعليقا

لن يتم نشر الايميل الخاص بك